فيلم "سعّود وينه؟" يقدّم تجربة تشويقية نفسية جديدة في السينما القطرية، تجمع بين دراما العائلة وأجواء الغموض في ليلة واحدة داخل مزرعة عائلية، وبفريق تمثيل وإنتاج قطري كامل من توقيع استديوهات كتارا وبقيادة المخرج محمد الإبراهيم.
وبعد مشاركته مؤخرًا في مهرجان الدوحة السينمائي، يتحول العمل إلى حديث الجمهور مع رهان واضح على إعادة إحياء الأفلام الجماهيرية في قطر برؤية محلية بجودة عالمية.
محمد الإبراهيم.. 15 سنة خبرة بين العدالة الجنائية والسينما
محمد الإبراهيم يعرّف عن نفسه لـET بالعربي ككاتب ومخرج فيلم "سعّود وينه؟" بخبرة تتجاوز 15 عامًا في مجال السينما والتلفزيون والإعلام، جمع خلالها بين الأعمال الدرامية التشويقية والوثائقية والإعلانات، قبل أن يقود اليوم واحدًا من أكثر المشاريع الطموحة في السينما القطرية المعاصرة.
خلفية محمد الأكاديمية تمتد بين العدالة الجنائية ودراسات السينما، إلى جانب دراسته السينما في جامعة كاليفورنيا في إيرفاين، وهي تجربة يؤكد أنها أثّرت بشكل مباشر على أسلوبه في السرد البصري وفهم الصورة والمعنى، وعلى طريقته في بناء التوتر النفسي على الشاشة.
عن فيلم "سعّود وينه؟"، يشرح الإبراهيم أن الأحداث تدور حول جمعة شبابية في مزرعة عائلية، تبدأ بأجواء ضحك ومقالب بين الأخوين حمّود وسعّود، قبل أن تنقلب الليلة رأسًا على عقب عندما يختفي سعّود بطريقة لا يستوعبها أحد. دخول شخصية عيسى في تلك اللحظة يخلق توترًا غريبًا، ويعطي إحساسًا بأن ما يحدث أكبر بكثير من مجرد مقلب بسيط بين الإخوة.
الفيلم، كما يصفه، يمزج بين دراما الأسرة والتشويق النفسي؛ علاقة الأخوين حمّود وسعّود هي محور الحكاية: حمّود هو الأخ الأكبر الذي "يشيل العائلة والشغل فوق رأسه"، هادئ في الظاهر لكن مثقل بالقلق والذنب من الداخل، في مقابل أخيه الأصغر سعّود، العفوي المحب للمقالب، الذي يقود اندفاعه العائلة إلى مشكلة كبيرة. هذه الديناميكية بين المسؤولية والاندفاع تشكّل قلب التوتر الدرامي في الفيلم.
الإبراهيم يوضح أن الفكرة بدأت بينه وبين زميله جاسم عبد، ومع صيف 2024 انطلق تصوير الفيلم على مدى 19 يومًا مكثّفة، بعد قرابة ستة أشهر من الكتابة والمراجعة. خلال هذه الفترة كان حريصًا، كما يقول، على أن "كل زاوية، وكل كلمة، وكل مشهد يخدم الجو النفسي والتوتر العام"، ليصبح كل تفصيل في الديكور والإضاءة وحركة الكاميرا جزءًا من حالة الشك والخوف التي يعيشها الأبطال.
التشويق عند محمد الإبراهيم.. من مدرسة هيتشكوك إلى المزرعة القطرية
عن بناء عنصر التشويق، يكشف محمد الإبراهيم لـET بالعربي أنه اعتمد في "سعّود وينه؟" على التشويق النفسي التدريجي أكثر من الأصوات العالية أو مشاهد الحركة المباشرة. المخرج قام ببحث واسع في أفلام ألفريد هيتشكوك، الذي يعتبره "أستاذ التشويق"، واستلهم منه مفهوم "امتياز المشاهد"؛ أي أن يعرف الجمهور معلومة حساسة قبل الشخصيات، ما يخلق توترًا داخليًا متصاعدًا بدل لحظة رعب عابرة.
يضرب الإبراهيم مثالًا برؤية هيتشكوك الشهيرة: إذا انفجرت قنبلة فجأة في مقهى، سيشعر المشاهد بالصدمة لثوانٍ فقط، لكن إذا عرف بوجود القنبلة قبل دقيقتين من الانفجار، سيتحوّل كل حوار وكل حركة على الشاشة إلى مصدر توتر. على هذا الأساس، تم بناء "سعّود وينه؟" بحيث يبدأ المشاهد بملاحظة علامات غريبة وتصرفات رمزية من عيسى قبل أن يستوعبها باقي الشخصيات، فيبقى الجمهور "سابقًا بخطوة" في قراءة ما يحدث، إلى أن يصل التوتر إلى مرحلة الانفجار الدرامي.
اختيار الممثلين كان جزءًا أساسيًا من هذا البناء؛ فشخصية سعّود كُتبت بشكل غير مباشر مستوحاة من حضور الممثل سعد النعيمي وخفة ظله، بينما احتاجت شخصية حمّود إلى ممثل قادر على إيصال ثقل المسؤولية والقلق الداخلي بهدوء خارجي، وهو ما وجده الإبراهيم في مشعل الدوسري بعد تجارب سابقة معه في أعمال أخرى. أما عيسى، فاحتاج إلى ممثل هادئ الكلام لكن حضوره يثير الريبة، ليقع الاختيار على عبدالعزيز الدوراني، الذي تعاون معه الإبراهيم منذ أول فيلم قصير أخرجه عام 2011.
مشعل الدوسري.. "حمّود" الذي يرث السر ويواجه الكابوس
الممثل القطري مشعل الدوسري يوجّه في رسالته لـET بالعربي شكره للمنصة على الاستضافة، ويصف مشاركته في "سعّود وينه؟" بأنها تجربة مفصلية في مسيرته، خصوصًا أن الدور الذي يجسده يُعد دورًا أساسيًا، ومن خلاله يكتشف المشاهد السر الذي ورثه حمّود من والده قبل أن يختفي، والطريقة التي يقرر فيها تجربة هذه الإمكانية للمرة الأولى.
حمّود، كما يقدّمه الدوسري، شخصية تعيش تحت ضغط المسؤولية العائلية والعملية، لكنها تجد نفسها فجأة في قلب أحداث غير متوقعة كان يدرك في داخله أن شيئًا ما سيحدث، لكن لا يعرف ما هو تحديدًا. هذه المفارقة بين اليقين والغموض، وبين الهدوء الخارجي والتوتر الداخلي، جعلت الدور – بحسب وصفه – "ثقيلاً في البحث والتطوير" بسبب كثرة التناقضات والتنقلات التي يعيشها حمّود خلال ليلة واحدة.
يشيد مشعل بثقة المخرج الشاب الطموح محمد الإبراهيم، معتبرًا أن هذه الثقة حملته مسؤولية أكبر للوصول إلى عمق الشخصية. كما يثمّن رهانات استديوهات كتارا، وعلى رأس الهرم أحمد الباكر، على هذا النوع من الأفلام الجماهيرية الصعبة التنفيذ، معتبرًا أن "سعّود وينه؟" في هذا التوقيت ليس مجرد فيلم، بل "بداية لإعادة الروح والنبض للحركة السينمائية في قطر" وفتح الباب أمام صُنّاع أفلام يمتلكون خيالًا واسعًا وقدرات إبداعية في عالم السينما.
سعّود وينه؟.. خدعة تتحول إلى كابوس عائلي
قصة الفيلم تنطلق من ذكرى طفولية تبدو بسيطة: حمّود وسعّود تعلّما في صغرهما خدعة سحرية على يد والدهما. بعد سنوات، يقرران إعادة تنفيذ الخدعة أمام أصدقائهما في المزرعة العائلية خلال ليلة عاصفة؛ ينجح حمّود في جعل سعّود يختفي، لكنه يفشل في إعادته إلى الظهور مجددًا. من هذه اللحظة، يتحوّل كل شيء إلى مساحة من الشك والخوف والغموض.
وجود شخصية عيسى في تلك الليلة يضيف بعدًا آخر للريبة؛ كلماته وتصرفاته تحمل رموزًا وتلميحات تجعل المشاهد يشعر أن ما يجري ليس مجرد مقلب ثقيل بين الإخوة، بل رحلة مظلمة في أعماق الذنب والحقيقة والأقنعة التي نرتديها داخل العائلة. الفيلم يتناول ثيمات الأقنعة والواجهات، الازدواجية بين ما نظهره وما نُخفيه، الذاكرة والصدمة، والذنب الذي يلاحق أبطاله، ليطرح في جوهره سؤالًا مباشرًا: ماذا يحدث عندما تنكشف الحقائق التي حاولنا إخفاءها طويلًا؟
بصريًا، يعتمد "سعّود وينه؟" على التباين بين الضوء والظلال واللقطات المتماثلة والفراغات الصامتة لعكس الصراع الداخلي للشخصيات وثيمة "المظاهر مقابل الحقيقة"، بينما يغمر تصميم الصوت الجمهور بتفاصيل حسية مثل صوت المطر المستمر والصدى والسكون الثقيل، لتجسيد حالة الاختناق النفسي التي يعيشها حمّود وباقي الشخصيات مع تصاعد الأحداث. المزرعة تتحول إلى مسرح رمزي للكبت والذكريات المكبوتة، في انعكاس مباشر لنية المخرج في جعل المكان امتدادًا ضيقًا للبيت العائلي رغم اتساعه الظاهر.
إنجاز لكتارا والسينما القطرية
فيلم "سعّود وينه؟" يُعد علامة فارقة في مسيرة السينما القطرية بوصفه أول فيلم تشويقي غامض يُنفّذ بالكامل داخل قطر بطاقم تمثيل وإنتاج محليين، من إنتاج استديوهات كتارا التي تواصل ترسيخ مكانة قطر كمركز سينمائي متنامٍ في المنطقة، يجمع بين الجودة الإنتاجية العالية والعمق الثقافي. بعد مشاركته في مهرجان الدوحة السينمائي، تخطّط استديوهات كتارا لطرح الفيلم في صالات السينما بدول الخليج، في خطوة تؤكد طموح تقديم قصص عربية أصيلة برؤية عالمية.
الفيلم لا يُقدّم فقط تجربة تشويق نفسي، بل يدعو الجمهور أيضًا إلى النظر إلى نفسه في المرآة، والتساؤل: كيف نخفي حقائقنا خلف صور مثالية؟ وماذا يعني الخلاص حين لا تعود الأقنعة قادرة على إخفاء pastنا وحاضرنا؟
